أم يوسف ، هل ترغبين بأن أُدخلك إلى غرفتك ؟
- كلا يا بُنيتي ، أريد أن أبقى قليلاً في الحديقة، رُبما..
تركت المُرافقة الفيليبينية أم يوسف لوحدها في الحديقة وعادت لتكمل أعمالها داخل المنزل ، أما أم يوسف فبقيت مع هواجسها وآمالها تتلظى وتحترق من وهج ألانتظار ، شاحنة نفسها بالإيمان بأن واحداً منهم على الأقل سيأتي لزيارتها قبل أن تسترد الشمس أشعتها الذهبية...
مضت سنة ونيف منذ أن أحضر لها أولادها هذه المرافقة الفيليبينية ، ومنذئذٍ أصبحت زياراتهم لها نادرة وشحيحة. لقد أشبعوها بالوعود المزيفة بأنهم سيبقون على تواصل معها - فكيف بهم أن يقطعوا صلة الرحم التي أوصى فيها الله سبحانه وتعالى؟ وعدوها بالبِر وأثبتوا العقوق، أكدوا لها بأنهم سيقومون بزيارتها يومياً هم وزوجاتهم وأولادهم، ولكن منذ أن أحضروا هذه المرافقة قلما شاهدتهم بناظريها...
أخذت أم يوسف تسترجع ذكرياتها ، مستذكرة ربيع عمرها . لقد أسبغ الله سبحانه وتعالى عليها من عظيم نعمائه وواسع آلائه ورزقها وزوجها بزينة الحياة الدنيا:المال والبنون . اشترت وزوجها قطعة أرض لأولادها بعيدة عن بيتهم ، لاعتقادهم بأن على الأولاد أن يشعروا بالراحة والاستقلالية بعيداً عن بيت أهلهم . اهتموا بتعليم أولادهم في الجامعات فعلّموهم وأوصلوهم إلى أحسن المناصب . ولكن لا بد لخريف العمر أن يغزو الحياة ، فقد توفي أُبو يوسف ، رفيق عمرها ، ألذي كان بمثابة الزوج الحنون والأخ العطوف والخل الوفي . عادت روحه إلى بارئها فغاب عنها الحنان والشفقة والآمان ، وبدأت حياة الذل والمقت والمهانة . فبعد وفاته أخذت زيارات أولادها لبيتها تتلاشى كانقشاع الغيوم في آخر فصل الشتاء ، فكل مشغول بأعماله وزوجته وبنيه ، ولم يبق من الوصال بينهم سوى وجبة طعام يومية يضعها أحد الأحفاد على طاولة المطبخ ويولي هارباً. كم تمنت أم يوسف لو رزقها الله سبحانه وتعالى ببنت حنون ، فكما يقولون بأن البنات أشد عطفاً وحناناً على الأهل من البنين ...
ضعف جسم أم يوسف مع الزمن ووهنت عظامها واشتعل رأسها شيباً حتى احتاجت إلى كرسي للمعاقين لتُنقل من مكان لآخر. التقى الإخوة في اجتماعٍ طارئ ليقرروا ما عساهم بأمهم فاعلين . تجادلوا ، تناقشوا وتعالت أصوات صياحهم في اجتماع نامت فيه الضمائر وصحت فيه الألسن ، وعندما خطر على بال أحدهم فكرة عبقرية ، يتم بحسبها جلب مُرافقة أجنبية إلى بيت أُمهم هدأت العاصفة واستقلوا سياراتهم لإبلاغ أمهم بنتائج " اجتماع القمة"!
التف "الأبناء" حول أمهم لإسماعها قرارهم المتعلق "بمستقبلها". عندها أجابتهم الأم بدموع لم يروها ، لأنها انهمرت من القلب ، لا من العين ، وكيف بهؤلاء العاقين بأن يشعروا بمكنونات قلب لم يرحموه؟
غابت الشمس وغاب معها أمل أم يوسف بأن يحضر أحد الأبناء لزيارتها.
انهمرت دمعة أخرى من القلب وبدأت تُخاطب رفيق الدرب :
- آهٍ يا أبا يوسف ، تنهدت في داخلها ، آهٍ لو تدري ما مصير من ربى وعلّم وكبّر وبني وزوّج و...؟ آه يا أبا يوسف: لقد قتلتني الوحدة يا رفيق العمر ! لمن أشكو وجعي وهمي وألمي ! هجرني أولادك فبقيت مع مُساعدة تعرف من العربية بضع كلمات فلا جليس ولا أنيس! آهٍ يا سندي:كم تمنيت أن لا يُفرقنا الموت كما لم تفرقنا الحياةّ!!!
- أم يوسف ، لقد غابت الشمس . هل ترغبين بإدخالك إلى الغرفة الآن ؟
- أم يوسف...
- أم يوسف...
أعادت المرافقة جملتها عدة مرات ، لكن أم يوسف لم تجب . رفعت يدها فهوت بسرعة . حاول أن تفحص نبض القلب فوجدته مُختنقاً من غزارة الدموع ...